فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلَوْ شئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكنْ حَقَّ الْقَوْلُ منّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ منَ الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعينَ (13)}.
قال محمد بن كعب القُرَظيّ: لما قالوا: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا فَارْجعْنَا نَعْمَلْ صَالحًا إنَّا مُوقنُونَ} ردّ عليهم بقوله: {وَلَوْ شئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} يقول: لو شئت لهديت الناس جميعًا فلم يختلف منهم أحد {ولكن حَقَّ القول منّي} الآية؛ ذكره ابن المبارك في رقائقه في حديث طويل.
وقد ذكرناه في التذكرة.
النحاس: {وَلَوْ شئْنَا لأتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} في معناه قولان: أحدهما: أنه في الدنيا.
والآخر: أن سياق الكلام يدلّ على أنه في الآخرة؛ أي لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا والمحنة كما سألوا: {ولكن حَقَّ القول منّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ منَ الجنة والناس أَجْمَعينَ} أي حق القول مني لأعذّبن من عصاني بنار جهنم.
وعلم الله تبارك وتعالى أنه لو ردهم لعادوا؛ كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لمَا نُهُوا عَنْهُ}.
وهذه الهداية معناها خلق المعرفة في القلب.
وتأويل المعتزلة: ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة، لكن لا يحسن منه فعله؛ لأنه ينقض الغرض المُجْرَى بالتكليف إليه وهو الثواب الذي لا يُستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره.
وقالت الإمامية في تأويلها: إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ولم يعاقب أحدًا، لكن حق القول منه أنه يملأ جهنم، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها؛ قالوا: بل الواجب هداية المعصومين، فأما من له ذنب فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله.
وفي جواز ذلك منع؛ لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان.
وقد تكلم العلماء عليهم في هذين التأويلين بما فيه كفاية في أصول الدين.
وأقرب مالهم في الجواب أن يقال: فقد بطل عندنا وعندكم أن يهديهم الله سبحانه على طريق الإلجاء والإجبار والإكراه، فصار يؤدّي ذلك إلى مذهب الجبرية، وهو مذهب رَذْل عندنا وعندكم؛ فلم يبق إلا أن المهتدين من المؤمنين إنما هداهم الله تعالى إلى الإيمان والطاعة على طريق الاختيار حتى يصح التكليف فمن شاء آمن وأطاع اختيارًا لا جبرًا؛ قال الله تعالى: {لمَن شَاءَ منكُمْ أَن يَسْتَقيمَ} [التكوير: 28]، وقال: {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبّه سَبيلًا} [المزمل: 19].
ثم عقّب هاتين الآيتين بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ الله}.
فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم، ونفى أن يشاؤوا إلا أن يشاء الله؛ ولهذا فرّطت المجبرة لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة الله تعالى، فقالوا: الخلق مجبورون في طاعتهم كلها، التفاتًا إلى قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ الله}.
وفرّطت القدرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة العباد، فقالوا: الخلق خالقون لأفعالهم، التفاتًا منهم إلى قوله تعالى: {لمَن شَاءَ منكُمْ أَن يَسْتَقيمَ}.
ومذهبنا هو الاقتصاد في الاعتقاد؛ وهو مذهب بين مذهبي المجبرة والقدرية؛ وخير الأمور أوساطها.
وذلك أن أهل الحق قالوا: نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه، وهو أنا ندرك تفرقة بين حركة الارتعاش الواقعة في يد الإنسان بغير محاولته وإرادته ولا مقرونة بقدرته، وبين حركة الاختيار إذا حرّك يده حركة مماثلة لحركة الارتعاش؛ ومن لا يفرق بين الحركتين: حركة الارتعاش وحركة الاختيار، وهما موجودتان في ذاته ومحسوستان في يده بمشاهدته وإدراك حاسته فهو معتوه في عقله ومختلّ في حسه، وخارج من حزب العقلاء.
وهذا هو الحق المبين، وهو طريق بين طريقي الإفراد والتفريط.
و:
كلا طَرَفَيْ قصد الأمور ذَميمُ.
وبهذا الاعتبار اختار أهل النظر من العلماء أن سَمَّوْا هذه المنزلة بين المنزلتين كَسْبًا، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز، وهو قوله سبحانه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286].
قوله تعالى: {فَذُوقُوا بمَا نَسيتُمْ لقَاءَ يَوْمكُمْ هاذآ} فيه قولان: أحدهما: أنه من النسيان الذي لا ذكر معه؛ أي لم يعملوا لهذا اليوم فكانوا بمنزلة الناسين.
والآخر: أن {نَسيتُمْ} بما تركتم، وكذا {إنَّا نَسينَاكُمْ}.
واحتج محمد بن يزيد بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهدْنَآ إلى ءَادَمَ من قَبْلُ فَنَسيَ} [طه: 115] قال: والدليل على أنه بمعنى ترك أن الله عز وجل أخبر عن إبليس أنه قال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْن} [الأعراف: 20] فلو كان آدم ناسيًا لكان قد ذكّره، وأنشد:
كأنه خارجًا من جَنْب صَفْحَته ** سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوهُ عند مُفْتَأد

أي تركوه.
ولو كان من النسيان لكان قد عملوا به مرة.
قال الضحاك: {نَسيتُمْ} أي تركتم أمري.
يحيى بن سلام: أي تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم.
{نَسينَاكُمْ} تركناكم من الخير؛ قاله السُّديّ.
مجاهد: تركناكم في العذاب.
وفي استئناف قوله: {إنَّا نَسينَاكُمْ} وبناء الفعل على إنّ واسمها تشديد في الانتقام منهم.
والمعنى: فذوقوا هذا؛ أي ما أنتم فيه من نكس الرءوس والخزي والغمّ بسبب نسيان الله.
أو ذوقوا العذاب المخلّد، وهو الدائم الذي لا انقطاع له في جهنم.
{بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني في الدنيا من المعاصي.
وقد يعبّر بالذّوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعومًا، لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم.
قال عمر بن أبي ربيعة:
فذُقْ هجرها إن كنت تزعم أنها ** فسادٌ ألاَ يا رُبَّما كذب الزعم

الجوهريّ: وذُقْت ما عند فلان؛ أي خبرته.
وذقت القَوْس إذا جذبت وترها لتنظر ما شدّتها.
وأذاقه الله وبال أمره.
قال طُفيل:
فذوقوا كما ذُقنا غَدَاة مُحَجّرٍ ** من الغيظ في أكبادنا والتَّحَوُّب

وتذوقته أي ذقته شيئًا بعد شيء.
وأمر مستذاق أي مجرّب معلوم.
قال الشاعر:
وعهدُ الغانيات كعهد قَيْن ** وَنَتْ عنه الجعائل مُسْتذاق

والذوّاق: الملول. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قُلْ} بيانًا للحقّ وردَّا على زعمهم الباطل {يتوفاكم مَّلَكُ الموت} لا كما تزعمون أنَّ الموتَ من الأحوال الطَّبيعية العارضة للحيوان بموجب الجبلَّة أي يقبضُ أرواحَكم بحيثُ لا يدعُ فيكم شيئًا أو لا يتركُ منكم أحدًا على أشدّ ما يكونُ من الوجوه وأفظعها من ضرب وجوهكم وأدباركم {الذى وُكّلَ بكُمْ} أي بقيض أرواحكم وإحصاء آجالكم {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} بالبعث للحساب والجزاء {وَلَوْ ترى إذ المجرمون} وهم القائلون أئذا ضللنا في الآية أو جنس المجرمينَ وهم من جُملتهم {نَاكسُوا رُءُوسهمْ عندَ رَبّهمْ} من الحياء والخزي عند ظهور قبائحهم التي اقترفُوها في الدُّنيا {رَبَّنَا} أي يقولون ربَّنا {أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا} أي صرنا ممَّن يُبصرُ ويسمعُ وحصل لنا الاستعدادُ لإدراك الآيات المُبصَرة والآيات المسمُوعة وكنَّا من قبلُ عُميا وصُمَّا لا ندركُ شيئًا {فارجعنا} إلى الدُّنيا {نَعْمَلْ} عملًا {صالحا} حسبما تقتضيه تلك الآياتُ وقولُه تعالى: {إنَّا مُوقنُونَ} إدّعاءٌ منهم لصحَّة الأفئدة والاقتدار على فهم معاني الآيات والعمل بموجبها كما أنَّ ما قبله ادّعاءٌ لصحَّة مشعري البصر والسَّمع كأنَّهم قالُوا وأيقنا وكنَّا من قبل لا نعقلُ شئًا أصلًا وإنما عدلُوا إلى الجملة الإسمية المؤكدة إظهارًا لثباتهم على الإيقان وكمال رغبتهم فيه، وكلُّ ذلك للجدّ في الاستدعاء طمعًا في الإجابة إلى ما سألُوه من الرَّجعة وأنَّى لهم ذلك ويجوز أنْ يقدَّر لكلَ من الفعلين مفعولٌ مناسبٌ له مَّما يُبصرونه ويسمعونَه فإنَّهم حينئذٍ يشاهدون الكفرَ والمعاصيَ على صورٍ منكرةٍ هائلةٍ ويخبرهم الملائكةُ بأنَّ مصيرَهم إلى النَّار لا محالَة فالمعنى أبصرْنا قبحَ أعمالنا وكنَّا نَراها في الدُّنيا حَسنةً وسمعنا أنَّ مردَّنا إلى النَّار وهو الأنسبُ لما بعده من الوعد بالعمل الصَّالح، هذا وقد قيل المعنى وسمعنَا منك تصديقَ رُسلك.
وأنت خبيرٌ بأنَّ تصديقَه تعالى لهم حينئذٍ يكون بإظهار مدلول ما أُخبروا به من الوعد والوعيد لا بالإخبار بأنَّهم صادقون حتَّى يسمعوه وقيل: وسمعنا قولَ الرُّسل أي سمعناه سمعَ طاعةٍ وإذعانٍ.
ولا يقدر لترى مفعولٌ إذ المعنى لو تكون منك رؤيةٌ في ذلك الوقت أو يقدر ما ينبىءُ عنه صلة إذ والمضيُّ فيها وفي لو باعتبار أنَّ الثَّابتَ في علم الله تعالى بمنزلة الواقع. وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمرًا فظيعًا لا يُقادر قدرُه. والخطابُ لكلّ أحدٍ ممَّن يصلحُ له كائنًا من كانَ إذ المرادُ بيانُ كمال سوء حالهم وبلوغها من الفظاعة إلى حيثُ لا يختصُّ استغرابُها واستفظاعُها براءٍ دونَ راءٍ ممَّن اعتادَ مشاهدةَ الأمور البديعة والدَّواهي الفظيعة بل كلُّ من يتأتّى منه الرؤيةُ يتعجَّبُ من هولها وفظاعتها.
هذا ومَنْ علّل عموم الخطاب بالقصد إلى بيان أنَّ حالَهم قد بلغتْ من الظُّهور إلى حيثُ يُمنع خفاؤها ألبتةَ فلا تختصُّ رؤيةُ راءٍ دون راءٍ بل كلُّ من يتأتَّى منه الرُّؤيةُ فله مدخلٌ في هذا الخطاب فقد نأى عن تحقيق الحقّ لأنَّ المقصودَ بيانُ كمال فظاعة حالهم كما يفصحُ عنه الجوابُ المحذوفُ لا بيانُ كمال ظهورها فإنَّه مسوقٌ مساقَ المسلَّمات فتدبَّر.
{وَلَوْ شئْنَا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}.
مقدر بقولٍ معطوفٍ على ما قُدّر قبل قوله تعالى: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} الخ، أي ونقولُ: لو شئنا أي لو تعلقتْ مشيئتُنا تعلقًا فعليًا بأنْ نُعطي كلَّ نفسٍ من النُّفوس البرَّة والفاجرة ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح لأعطيناها إيَّاه في الدُّنيا التي هي دارُ الكسب وما أخَّرناه إلى دار الجزاء {ولكن حَقَّ القول منْى} أي سبقت كلمتي حيثُ قلتُ لإبليسَ عند قوله: {لاَغْويَنَّهُمْ أَجْمَعينَ إلاَّ عبَادَكَ منْهُمُ المخلصين فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ منكَ وَممَّن تَبعَكَ منْهُمْ أَجْمَعينَ} وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ منَ الجنة والناس أَجْمَعينَ} كما يلوحُ به تقديم الجنَّة على النَّاس فبموجب ذلكَ القول لم نشأْ إعطاءَ الهُدى على العموم بل معناهُ من أتباع إبليسَ الذين أنتُم من جُملتهم حيثُ صَرفتُم اختيارَكم إلى الغيّ بإغوائه، ومشيئتُنا لأفعال العباد منوطةٌ باختيارهم إيَّاها فلمَّا لم تختارُوا الهُدى واخترتُم الضَّلالةَ لم نشأْ إعطاءَه لكم وإنَّما أعطيناه الذين اختارُوه من النُّفوس البرَّة وهم المعنيّون بما سيأتي من قوله تعالى: {إنَّمَا يُؤْمنُ بآياتنا} الآيةَ، فيكونُ مناطُ عدم مشيئته إعطاءَ الهُدى في الحقيقة سوءَ اختيارهم لا تحققَ القول وإنَّما قيدنا المشيئةَ بما مرَّ من التعلُّق الفعليّ بأفعال العباد عند حدوثها لأنَّ المشيئةَ الأزليةَ من حيثُ تعلُّقها بما سيكونُ من أفعالهم إجمالًا متقدّمةٌ على تحقق كلمة العذاب فلا يكونُ عدمُها منوطًا بتحققها وإنَّما مناطُه علمُه تعالى أزلًا بصرف اختيارهم فيما سيأتي إلى الغيّ وإيثارهم له على الهدى، فلو أُريدت هي من تلك الحيثية لاستدرك بعدمها ونيطَ ذلك بما ذُكر من المناط على منهاج قوله تعالى: {وَلَوْ عَلمَ الله فيهمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ}.
فمن توهَّم أنَّ المَعنى ولو شئنا لأعطينا كلَّ نفسٍ ما عندنا من اللُّطف الذي لو كان منهم اختيارُه لاهتدَوا ولكن لم نُعطهم لمّا علمنا منهم اختيارَ الكفر وإيثارَه فقد اشتبه عليه الشؤونُ، والفاء في قوله تعالى: {فَذُوقُوا} لترتيب الأمر بالذَّوق على ما يُعرب عنه ما قبله من نفي الرَّجع إلى الدُّنيا أو على الوعيد المحكيّ والباء في قوله تعالى: {بمَا نَسيتُمْ لقَاء يَوْمكُمْ هذا} للإيذان بأنَّ تعذيبَهم ليس لمجرد سبق الوعيد به فقط بل هو وسبقُ الوعيد أيضًا بسببٍ موجبٍ له من قبَلهم، كأنَّه قيل: لا رجعَ لكم إلى الدُّنيا أو حقَّ وعيدي فذوقُوا بسبب نسيانكم لقاءَ هذا اليوم الهائل وترككم التفكُّرَ فيه والاستعدادَ له بالكُلّية {إنَّا نسيناكم} أي تركناكُم في العذاب تركَ المنسيّ بالمرَّة وقولُه تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الخلد بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تكريرٌ للتَّأكيد والتَّشديد وتعيينُ المفعول المطويّ للذوق والإشعار بأنَّ سببَه ليس مجرَّد ما ذُكر من النّسيان بل له أسبابٌ أخرُ من فنون الكفر والمَعاصي التي كانُوا مستمرّين عليها في الدُّنيا، وعدمُ نظم الكلّ في سلكٍ واحدٍ للتنبيه على استقلال كلَ منها في استيجاب العذاب. وفي إبهام المذوق أولًا وبيانه ثانيًا بتكرير الأمر وتوسيط الاستئناف المنبىء عن كمال السُّخط بينهما من الدّلالة على غاية التَّشديد في الانتقام منهم ما لا يَخْفى. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ} ردًا عليهم {يتوفاكم مَّلَكُ الموت} يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئًا من أجزائها أولًا يترك شيئًا من جزئياتها ولا يبقى أحدًا منكم، وأصل التوفي أخذ الشيء بتمامه، وفسر بالاستيفاء لأن التفعل والاستفعال يلتقيان كثيرًا كتقضيته واستقضيته وتعجله واستعجلته، ونسبة التوفي إلى ملك الموت باعتبار أنه عليه الصلاة والسلام يباشر قبض الأنفس بأمره عز وجل كما يشير إليه قوله سبحانه: {الذى وُكّلَ بكُمْ} أي بقبض أنفسكم ومعرفة انتهاء آجالكم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من الأنصار يعوده فإذا ملك الموت عليه السلام عند رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال: أبشريا محمد فإني بكل مؤمن رفيق واعلم يا محمد إني لأقبض روح ابن آدم فيصرخ أهله فأقوم في جانب من الدار فأقول والله مالي من ذنب وإن لي لعودة وعودة الحذر الحذر وما خلق الله تعالى من أهل بيت ولا مدر ولا شعر ولا وبر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصحفهم فهي كل يوم وليلة خمس مرات حتى إني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم والله يا محمد إني لا أقدر أقبض روح بعوضة حتى يكون الله تبارك وتعالى الذي يأمر بقبضه، وأخرج نحوه الطبراني وأبو نعيم وابن منده ونسبته إليه عز وجل في قوله سبحانه: {الله يَتَوَفَّى الأنفس} [الزمر: 42] باعتبار أن أفعال العباد كلها مخلوقة له جل وعلا لا مدخل للعباد فيها بسوى الكسب كما يقوله الأشاعرة أو باعتبار أن ذلك بإذنه تعالى ومشيئته جل شأنه ونسبته إلى الرسل في قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] وإلى الملائكة في قوله سبحانه: {الذين تتوفاهم الملائكة ظَالمى أَنفُسهمْ} [النحل: 28] لما أن ملك الموت لا يستقل به بل له أعوان كما جاء في الآثار يعالجون نزع الروح حتى إذا قرب خروجها قبضها ملك الموت، وقيل: المراد بملك الموت الجنس، وقال بعضهم: إن بعض الناس يتوفاهم ملك الموت وبعضهم يتوفاهم الله عز وجل بنفسه، أخرج ابن ماجه عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى وكل ملك الموت عليه السلام بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولى قبض أرواحهم.
وجاء ذلك أيضًا في خبر آخر يفيد أن ملك الموت للإنس غير ملك الموت للجن والشياطين وما لا يعقل.
أخرج ابن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: وكل ملك الموت عليه السلام بقبض أرواح المؤمنين فهو الذي يلي قبض أرواحهم وملك في الجن وملك في الشياطين وملك في الطير والوحش والسباع والحيتان والنمل فهم أربعة أملاك والملائكة يموتون في الصعقة الأولى وأن ملك الموت يلي قبض أرواحهم ثم يموت وأما الشهداء في البحر فإن الله تعالى يلي قبض أرواحهم لا يكل ذلك إلى ملك الموت بكرامتهم عليه سبحانه.